حسام الدين خليل
في عالم يتسم بأشكال متنوعة من العنصرية والإقصاء، يكثر التطلع إلى الجامعات كمنقذ ومخلص من هذه الممارسات من خلال دورها في تعليم الأجيال وتشكيل الوعي ضمن مسؤوليتها الأخلاقية تجاه المجتمعات التي تحتضنها.
لكن الجامعات في منطقتنا العربية كثيراً ما تتهم بأنها جزء من المشكلة وليس الحل بسبب ابتعادها إلى حد كبيرعن الواقع السياسي والاجتماعي المحيط بها وتركيز إداراتها على مايجري داخل الحرم الجامعي فقط، مما قد ينتج عنه ممارستها لبعض السياسات التي تزيد من حدة عدم المساواة التي يفترض أن تتصدى لها.
ولأن الجامعات جزء من مجتمعاتها تعاني مما يعاني منه وتصاب بما يصاب به، حتى ولو أغلقت أبوابها على نفسها، فإنها معرضة بشكل أو بأخر لوقوع ممارسات عنصرية بداخلها أو ضدها.
مما يدعو إلى إعادة التفكير في الدور المطلوب من الجامعات كمؤسسات تعليمية أكثر انخراطاً في تعزيز قيم التسامح والتآزر بين سكان العالم حول القضايا الإنسانية، بعبارة أخرى دعم ما يعرف بالمواطنة العالمية.
يدعو مفهوم المواطنة العالمية لنبذ الأفكار المجحفة سواء كانت محلية أو إقليمية أو وطنية، بحيث يصبح الإنسان مواطنا عالميا ينتمي إلى كل أجزاء العالم وينشغل بإيجاد حلول لقضاياه؛ الأمر الذي يؤدي إلى إنتاج مجتمع عالمي متناغم يسوده احترام متبادل يعمل لخدمة الإنسانية رغم اختلافات الدين والعرق واللون، وهذا يسهم في تحويل العالم إلى مكان أفضل عما نعرفه الآن.
ربما كان من أكبر الدروس التي يُفترض أن يستفيدها العالم من كوفيد-19 أن مصير البشرية واحد، وأن مستقبلها مشترك؛ فالفيروس لا يفرق بين ضحاياه في لون أو جنس ولا يميز بين دولة متقدمة وأخرى نامية، حيث أصبحت سلامة الجميع مرتبطة بالجميع. مع ذلك، للأسف، فإن الوعي بهذا الدرس غاب في خضم من العنصرية الدولية حيث اختارت كثير من الحكومات تحقيق مصالحها الذاتية على حساب شعوب أخرى، بل ربما استغل بعضها الخوف من الفيروس لتنفيذ سياسات عنصرية تجاه الشريحة الأضعف في المجتمع من اللاجئين أو الطلاب الأجانب كما في قرار إبعاد الطلاب الأجانب الذي تراجعت عنه الإدارة الأميركية بعد رفع الأمر إلى القضاء مؤخرا.
كما أن الحديث عن تعزيز العالمية ومجابهة العنصرية ليست ترفاً علمياً أو أخلاقياً؛ فالعنصرية بأشكالها المختلفة هي السبب الرئيسي في الفشل في مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد البشرية؛ مثل التغير المناخي وأسلحة الدمار الشامل وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية وقهر الشعوب الضعيفة، كما كانت من الأسباب الرئيسية للحرب العالمية الأولى والثانية؛ ولهذا ليس من قبيل المبالغة أن تُعد العنصرية واحدة من أخطر شرور العصر، بل قد تكون هي الأخطر على الإطلاق.
ربما كان من أكبر الدروس التي يُفترض أن يستفيدها العالم من كوفيد-19 أن مصير البشرية واحد، وأن مستقبلها مشترك.
مؤخراً، شكلت حادثة مقتل جورج فلويد، واطن أمريكي من أصل أفريقي قتل على يد رجل شرطة في الولايات المتحدةن وما أشعلته من احتجاجات غير مسبوقة؛ فرصة أمام عدد من الجامعات الكبرى حول العالم لتعلن موقفا من العنصرية معززة بذلك قيم المواطنة العالمية، وقد أحسن كثير منها استغلال ذلك لدفع الشبهات عنها. مع ذلك، لا يزال ينتظرها الكثير من العمل، ففي بريطانيا وحدها عشرات الآلاف من الحوادث العنصرية كل عام؛ التي فشلت الجامعات في مواجهتها بحسب هيئة مراقبة المساواة الحكومية.
أما إذا نظرنا إلى الجامعات العربية فإننا نجد كثيرا من الجامعات لم تبد أي موقف تجاه قضية فلويد مع أنها قضية إنسانية بالدرجة الأولى، وكان من الممكن أن تشكل نقطة مراجعة لأية سياسات عنصرية تمارسها أو يتم غض الطرف عنها، أوعلى الأقل كان يفترض أن تكون نقطة بدء لمناقشة بعض الممارسات العنصرية الدولية التي قد تكون جامعاتنا نفسها ضحية من ضحاياها.
من الأمثلة الصارخة على العنصرية التي تمارسها بعض الجامعات العربية ما جرى من طرد الطلاب القطريين من جامعات خليجية أخرى أو جامعات غربية في الخليج وإغلاق حساباتهم الإلكترونية على المواقع الرسمية لهذه الجامعات دون مسوغ قانوني لذلك. (إقرأ التقرير ذو الصلة: مقاطعة قطر تهدد مستقبل الطلاب العرب)
بطبيعة الحال لا تتوفر كثير من البيانات الإحصائية حول السلوك العنصري في جامعاتنا لعدم إجراء ذلك بشكل محايد وشفاف، لكن دراسة نشرتها إحدى الجمعيات الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية شملت 170 طالبة في إحدى الجامعات في ذلك البلد أن 32.4 في المئة تعرضن للتمييز العنصري، بينما أجاب 35.5 في المئة بـ لا أعلم. أما عن نوع التمييز فقد احتل التمييز القبلي 52.4 في المئة والتمييز الديني 15.9في المئة.
ربما يعتقد كثيرون أن مهمة الجامعات تنحصر في إنتاج المعرفة. هذا بلا شك صحيح، ولكن المعرفة التي تنتجها الجامعات ينبغي ألا تنفصل مطلقا عن قيم المواطنة العالمية، فالمعرفة في ذاتها لا تنفصل عن العالمية، فهي دائما تفتح آفاقا وطرقا جديدة لرؤية العالم. وهذا لا يعني أن تنفصل الجامعات عن واقعها المحلي، فإن هذا الواقع ليس عالميًا خالصا كما أنه ليس وطنيًا خالصا، بل هو واقع متفاعل بينهما، ومن هنا كان لها دور أرحب وأوسع في تعزيز قيم المواطنة، لا كما يحصرها مفهوم الدولة القومية الضيق.
إن من الأهداف التي ينبغي أن تتوخاها مناهجنا التعليمية -بغض النظر عن طبيعة المادة التي تُدرّس- أن تكسب الطلاب مهارات العالمية.
إن من الأهداف التي ينبغي أن تتوخاها مناهجنا التعليمية – بغض النظر عن طبيعة المادة التي تُدرّس- أن تكسب الطلاب مهارات العالمية Global competences، تفتح آفاقاً خارج الإطارالمحلي الذي يعيشون فيه، وتجعلهم يدركون أن حياتهم مرتبطة بحياة الآخرين رغم التباعد الجغرافي. هذا الأمر أصبح الآن ممكنا أكثر من أي وقت مضى بسبب ثورة الاتصالات الهائلة التي يشهدها عصرنا، والتي تم اختبارها وتفعيلها جيدا خلال أزمة فيروس كورونا.
فعلى سبيل المثال، بات بإمكاننا عقد فصول دراسية مشتركة بين جامعاتنا وعدد من الجامعات الأخرى، وفتح حلقات نقاشية مشتركة، ومشاريع بحثية مشتركة لتعزيز ذلك. كما يمكننا الانخراط في تحالف دولي جاد بين عدد من الجامعات لتحقيق هذا الغرض، والاستفادة من الخطة الاستراتيجية التي طرحتها اليونسكو للتعليم (2030) والتزمت من خلالها دعم تعليم المواطنة العالمية(GCED) . إذ لا يكفي لجامعاتنا لتحقيق المواطنة العالمية أن تحتوي على عدد من الجنسيات وحسب، أو تقيم مذكرات تفاهم وتعاون، لا تتجاوز في أكثر الأحيان مجرد التوقيع.
اليوم، هناك فرصة جيدة – أتمنى أن لا تضيع- لإعادة التفكير في دور جامعاتنا والفرص المتاحة من خلالها لبناء مجتمع عادل يتشارك فيه الجميع فرص بناء غد أفضل بعيداً عن شرور العنصرية.
حسام الدين خليل، باحث أول- كلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة.
URL: