غيّرت الجائحة العالمية الحالية المستقبل المتوقع للعالم. فأزمة كورونا تغير العالم وتعيد بناءه إذ أنّها وضعت البشرية أمام فرصة لإعادة التفكير في المستقبل. وفيما بادرت اليونسكو الى اطلاق نقاشٍ عالمي حول السيناريوهات المتوقعة والممكنة والمحتملة والبديلة للمستقبل من خلال مبادرة "مستقبل التربية والتعليم: تعلم لتصبح الإنسان الذي تريد" التي أطلقتها في أيلول 2019، قدّمت أزمة كورونا قوة دفع جديدة لهذا النقاش.
على هذه الخلفية، نظّم مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية –بيروت، بالشراكة مع اليونسكو باريس و و المركز الإقليمي للتخطيط التربوي، في 16 حزيران/يونيو 2020 مناقشة اقليمية عربيةعبر الإنترنت حول مستقبل التعليم بعد جائحة كورونا. هدفت الندوة الى تسليط الضوء على التحديات التي تواجه نظم التعليم في ما يتعلق بضمان استمرارية تعلم التلاميذ والدروس المستفادة خلال أزمة كورونا، والى التعمق في الخطط والاستراتيجيات المقترحة وتحليلها لتحديد إطار لرؤية التعليم بعد جائحة كورونا. استندت المناقشة على ندوة "إعادة التفكير في التعليم" التي عقدت في شرم الشيخ، في مصر عام 2017 وتعيد التأكيد على إعلان القاهرة (2016) لإعادة التفكير في التعليم. كما أنها أتت في إطار استجابة اليونسكو لأزمة كورونا على الصعيد التربوي والجهود التي تبذلها المنظمة لتقديم الدعم للدول الأعضاء في المنطقة العربية خلال كورونا وبعدها.
شارك في الندوة كبار الشخصيات من بينها معالي وزير التربية والتعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة حسين ابراهيم الحمادي، ومدير مكتب اليونسكو في بيروت الدكتور حمد بن سيف الهمامي، ومديرة المركز الإقليمي للتخطيط التربوي الدكتورة مهرة المطيوعي، ورئيس شعبة البحث والاستشراف في مجال التعليم في مقر اليونسكو في باريس الدكتور صبحي طويل. كما حضر الندوة 500 شخص.
ادريس
افتُتحت الندوة بكلمة ترحيبية للدكتور حجازي ابراهيم ادريس، الأخصائي الإقليمي لبرامج التربية الأساسية في مكتب اليونسكو في بيروت، قال فيها : هذه المناقشة الإقليمية تهدف في مجملها إلى الإجابة على الأسئلة التالية :
ما هي الخيارات في السياسات التعليمية والفرص التي يمكن أن نستفيد منها لمستقبل التعليم في المنطقة العربية؟ ماذا نعني بالبيداغوجيا الجديدة أو البيداغوجيا 4.0؟ ما هي الخيارات في الممارسة لضمان استمرارية التعليم وخصوصا في الدول التي تعاني من الأزمات وللأطفال خارج المدرسة؟ ماذا عن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة الآن وفي المستقبل؟ ما هي الدروس المستفادة من دور الوالدين في التعلم والتعليم؟ هل يحتاج الأطفال الآن وبعد العودة إلى المدرسة إلى الدعم النفسي والاجتماعي؟ وأخيرًا، ماذا عن مبادرة اليونسكو العالمية حول مستقبل التعليم حتى عام 2050؟
المطيوعي
كما رحبّت مديرة المركز الإقليمي للتخطيط التربوي الدكتورة مهرة المطيوعي بالمشاركين وأكّدت على أن جائحة كوفيد 19 تركت تأثيرات كبيرة على الأنظمة التعليمة في العالم واضطرتها إلى إعادة ترتيب أولوياتها و تغيير استراتيجيتها حيث أثرت هذه الجائحة في ذروتها على تعليم 1.6 مليار طالب والذين انقطعوا عن الذهاب إلى المدارس و الجامعات و تلقوا تعليمهم عن بعد، و الذي فرض ضرورة تقديم التعليم بشكل مختلف وغير تقليدي، و من خلال وسائل مختلفة مثل الانترنت والتلفاز وغيرها من الوسائل . وقالت: هذه التغييرات التي فرضتها الجائحة سوف تستمر الايجابية منها بعد الجائحة ومن هنا فأنه من المهم على الانظمة ايجاد طرق مختلفة لإعداد المعلم بطريقة خلّاقة تكسبه المهارات المطلوبة للتعامل مع هذا الواقع المتغير للعملية التعليمية. و كذلك فإن الانظمة يجب عليها مراجعة مصفوفة المهارات التي تعطى للطلبة وتحديثها بشكل يجعل الطلبة أكثر استعداداً للمستقبل. وأضافت: خلقت الجائحة تحدي بالنسبة لجودة التعليم المقدم مما يفرض على الانظمة التعليمية وضع أطر جديدة لقياس جودة التعليم لديها ومعالجة الفجوة الرقمية الموجودة بين الطلبة و المعلمين ، ونحن في حاجة إلى وضع اطارعالمي للتنسيق والتعاون وبناء شراكات فاعلة بين المؤسسات العامة والخاصة؛ حتى يحصل كل الطلاب حول العالم على تعليم منصف و ذو جودة .
الهمامي
ثمّ ألقى مدير مكتب اليونسكو في بيروت الدكتور حمد الهمامي كلمة افتتاحية جاء فيها: إنّ مستقبل التعليم في المنطقة العربية بعد جائحة كورونا وإنّ التعليم والتمدرس بجميع عناصرهما سيشهدان تحولات كبيرة إذا تمت الاستفادة من الدروس المستقاة من هذه الجائحة، وإذا ما تمت دراسة التحديات التي واجهت بعض وزارات التربية والتعليم والانظمة التعليمية في المنطقة بشكل معمّق. وأضاف: إن أبرز التحديات التي واجهتها الأنظمة التعليمية خلال جائحة كورونا هي عدم جهوزية بعض أنظمة التعليم في المنطقة العربية للتعلم عن بُعد وضعف البنية التعليمية والتفاوت الكبير بين الشباب الذين يمتلكون وسائل التكنولوجيا الحديثة، كماعدم جاهزية الكوادر التعليمية للتحول للتعليم عن بعد . بالإضافة إلى ذلك، تعيش بعض الدول العربية أزمات ونزاعات داخلية لها تأثير ملحوظ على التعليم ونوعيته، نظرًا إلى أنها تسببت بوجود ملايين من الأطفال خارج المدرسة. ومما لا شك فيه أن جائحة كورونا ستفاقم هذه الأزمات بِفِعْلِ توقُّف الدراسة ونشوء تعقيدات اقتصادية واجتماعية.
وأردف الهمامي: إن الفرصة لا تزال سانحة ورُبَّ ضارة نافعة ولا يزال لدينا الأمل في تحويل هذه المحنة إلى منحة إذا تم فعلا تدارك مجموعة من العناصر التالية: الاستخدام الأمثل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العملية التعليمية، اعداد المعلمين اعدادا مهنيا حقيقيا، اعادة النظر في أساليب التقييم وقياس انجازات الدارسين بدءًا من امتحانات الفرصة الواحدة وصولا إلى التقييم المستمر لتقدّم الدّارس ومن الاختبارات الموحدة إلى تفريد أدوات القياس بحيث لا يعتمد على مقياس واحد لمدى حدوث التعلم من عدمه. كما من الضروري التطور والتحديث الشامل لجميع المشاركين في المنظومة التعليمية، بما في ذلك راسمو الساسات ومتخذي القرار، بالاضافة الى التحول الرقمي في إدارة المنظومة التعليمية والإشراف التربوي.
الحمادي
بعدها تحدّث معالي الوزير حسين ابراهيم الحمادي عن مستقبل التعليم في الإمارات العربية المتحدة بعد جائحة كورونا وجاء في كلمته أن الاجتماع الإقليمي حول مستقبل التعليم بعد كوفيد 19، بالغ الأهمية كونه يتناول ملفا حيويا، ولعله يكون الأكثر أهمية وطرحاً على الصعيد التربوي على المستوى العالمي، ويحظى بنقاشات مستفيضة، باعتباره يتطلب تحولا جذريا وكبيراً في الممارسات التعليمية، ويحتاج إلى استراتيجيات وسياسات تعليمية مبتكرة، وأدوات تربوية جديدة، وتعاون وثيق بين الدول، نحو مأسسة منظومات تعليمية قادرة على التكيف مع الواقع الجديد.
وأوضح معاليه، أن دولة الإمارات خطت خطوات واسعة في هذا السياق، وكانت سباقة في اعتماد الاستراتيجيات والخطط والسيناريوهات التعليمية التي من شأنها تحقيق منظومة تعلم ذكي فعال محاط بالممكنات التربوية والموارد التعليمية متعددة الأهمية والقدرات، وذلك منذ سنوات بفضل توجيهات ودعم القيادة الرشيدة، وهو ما هيأ السبل في تفعيل منظومة التعلم الذكي لنحو 1.2 مليون من طلبة المدرسة الإماراتية، وبنسبة 100% دون معوقات بارزة، والاستجابة السريعة لمقتضيات المرحلة الراهنة نتيجة انتشارفيروس كورونا المستجد، في الوقت الذي عانت دول عديدة من صعوبات بالغة، انعكست سلباً على مواصلة مسيرة التعلم لديها.
وقال إن إمكانية تجويد الأطر التعليمية وتحقيق أفضل الفرص التربوية، بعد ﺟﺎﺋﺤﺔ كورونا، مرهون بمدى قدرتنا في العمل على معالجة التحديات والإشكاليات التي طرأت، وفي الوقت ذاته، البناء على المكتسبات التربوية التي برزت على مستويات عدة، من أجل ضمان التعليم المنصف والشامل للجميع، وتكريس التعلم مدى الحياة دون إستثناء فئة أو شريحة معينة.
وحدد معاليه ممكنات تطوير التعليم ما بعد كوفيد 19 من حيث قدرتها على استيعاب التحديثات الراهنة في أربعة عوامل أساسية، وهي البنية التحتية والسياسات والأطر المنظمة والمناهج المطورة والتأهيل والتدريب، مشيراً إلى أن تطوير مخرجات التعليم ترتكز على قواعد مهمة، تتلخص في التعلم الذكي ومنظومة الرعاية والأنشطة، ومهارات الطلبة، وتعزيز منظومة التعليم العالي.
وذكر أنه يتعين قياس مخرجات أي منظومة تعليمية وفق أساسيات أهمها بناء إطار متابعة ورقابة متكامل لتقييم الأداء، وتوفير منظومة قياس ذكية، وقياس الأثر، فضلاً عن أهمية العمل في اتجاه آخر، وهو تحقيق شراكات من أجل التعليم، من خلال التعليم التشاركي الذي يستند إلى تبادل الخبرات، والاستثمار في التعليم على مستوى الدول.
العروض
تلا ذلك عروضاً لمجموعة من الأخصائيين. فتحدّث الدكتور صبحي الطويل عن مستقبل التعليم من منظور عالمين مشيراً الى الدور الرائد الذي لعبته اليونسكو في اطلاق نقاش عالمي حول هذا الموضوع. ثم عرض الدكتور يين تشيونغ تشانغ، الأستاذ فخري في جامعة هونغ كونغ التعليمية، الدروس المستفادة من التحديات التي تواجه نظم التعليم خلال الأزمة الوبائية، وقدّم أفكاراً حول كيفيية الاستفادة من هذه الدروس لتصميم مستقبل التعليم. وشدّد، على وجه الخصوص، على ضرورة الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي لإعادة تعريف التعلّم من حيث طبيعته ومضمونه، وسياقه، واللاعبين الأساسيين فيه، وشكله وسرعته، من أجل خلق فرص غير محدودة للتعلم ؛ كما شدّد على أهمية الإبداع و أخذ بعين الإعتبار السياق المحلي لمواجهة التحديات والاضطرابات المتعددة.
أما معالي الأستاذ خلفان بلهول، المدير التنفيذي لمؤسسة دبي للمستقبل، فتحدّث عن سيناريوهات لمستقبل التعليم على المديين القصير والطويل بعد انقضاء الجائحة.
بعدها، قدّم الدكتور فريديريكو بياجي، الباحث في المفوضية الأوروبية، عرضًا حول تأثير كوفيد-19 على تعلّم الطلاب وقدرتهم على الإنجاز. وقال: "تشير التقديرات لعدد من دول الاتحاد الأوروبي إلى أن الطلاب، بالإجمال، سوف يفقدون بعضاً مما تعلّموه. كما أن كوفيد-19 سيكون لها تأثير متفاوت على الطلاب، وسوف تؤثر سلبًا على قدرتهم على اكتساب المهارات المعرفية وغير المعرفية ، وقد يكون لها عواقب مهمة طويلة المدى بالإضافة إلى تلك قصيرة المدى. من هنا، يجب على واضعي السياسات وأصحاب المصلحة التعاون ومحاولة تحسين فعالية نماذج التعلم عبر الإنترنت والحد من أوجه عدم المساواة في التعليم".
أما الدكتور سامي نصار، عميد كلية الدراسات التربوية في الجامعة المصرية للتعلم الإلكترونى الأهلية، فتحدّث عن " التعليم: الجيل الرابع" وقال: " كشف الوباء عن حجم الزيف الذي عشناه ردحا من الزمان ننسج من خيالاته وأوهامه صوراً وبنى ومؤسسات، ونضع لها تشريعات ونظما نسجن أنفسنا بداخلها. بل لقد كشف الوباء أيضا عن تهافت أنساق القيم التي ندعي دائما الحفاظ عليها والدفاع عنها. كما أثبت أن خطوط الروتين وشبكاته التي دارت فيها حياتنا اليومية الاجتماعية والاقتصادية هي أوهى من بيوت العنكبوت"، ودعا المسؤولين وأصحاب المصلحة للتفكير في بناء نُظُم تعليمية أكثر ليونة في المستقبل.
وأخيراً، قدّم الدكتور أحمد أوزي، الأستاذ الفخري في جامعة محمد الخامس في الرباط – المغرب،
نموذجاً بيداغوجياً جديداً لمستقبل التعليم.
بعد ملاحظات ختامية لكل من الدكتور ادريس والدكتورة المطيوعي والدكتور سوبي نوا ويبستر، كبير موظفي إدارة مشاريع البحث والاستشراف في مجال التعليم في مقر اليونسكو، كان هناك نقاشاً تفاعلياً مع الحاضرين.
قدّمت الندوة فرصة للمشاركين لمناقشة التحديات والفرص الناجمة عن جائحة كورونا، كما شكّلت منصّة موسّعة لتبادل الدروس المستفادة وعرض وجهات نظر المفكرين التربويين الدوليين المتعلقة بمستقبل التعليم خلال جائحة كورونا وبعدها
URL: