في حوار أجرته معه رسالة اليونسكو، يحلّل المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري (link is external)، مؤلف كتاب "سابيانس. تاريخ موجز للإنسانيّة"، تداعيات الأزمة الصحية الحالية المرتبطة بفيروس كورونا، ويلحّ على ضرورة تعزيز التعاون العلمي الدولي وإرساء تبادل أفضل للمعلومات بين البلدان.
فيمَ تختلف هذه الجائحة الصحيّة العالمية عن الأزمات الصحية السابقة؟
لست متأكدًا من أنها أسوأ تهديد صحي عالمي واجهناه. فوباء الإنفلونزا 1918-1919 كان أسوأ، ووباء الإيدز كان بدوره أسوأ، والجوائح التي ضربت في عهود سابقة كانت، بالتأكيد، أشدّ سوءا. فالجائحة الحالية تعتبر، في الواقع، طفيفة مقارنة بسابقاتها. في أوائل الثمانينات، كان المصاب بالإيدز يموت. كما أنّ الطّاعون الأسود [الذي اجتاح أوروبا فيما بين 1347 و1351] أودى بحياة ما بين ربع السكان المُصابين ونصفهم. وقضت إنفلونزا سنة 1918 على أكثر من 10% من إجمالي السكان في بعض البلدان. أما فيروس كوفيد-19 فقد تسبّب في وفاة أقل من 5% ممّن أُصيبوا به، وطالما لم تطرأ عليه تحوّلات خطيرة فمن غير المرجح أن يقتل أكثر من واحد في المائة من سكان أي بلد.
إضافة إلى ذلك، فنحن نملك اليوم، خلافا للعهود السابقة، جميع المعارف العلمية والوسائل التكنولوجية اللازمة للتغلب على هذا الوباء. فعندما ضرب الطّاعون الأسود، كان السكان عاجزين تمامًا على مواجهته، ولم يتوصّلوا إلى اكتشاف الدّاء الذي يقتلهم وكيفية حماية أنفسهم منه. وفي سنة 1348، اعتقدت كلية الطب بجامعة باريس أن الوباء جاء نتيجة حادث فلكي مؤسف تمثّل في "التقاء رهيب بين كواكب ثلاثة في برج الدّلو، تسبّب في فساد الهواء على نحو قاتل" (ورد في كتاب الموت الأسود، ترجمة ونشر روزماري هوروكس، منشورات جامعة مانشستر، 1994، ص 159).
بالمقابل، عندما ظهر الكوفيد-19، لم يستوجب الأمر أكثر من أسبوعين قبل أن يتمكّن العلماء من التعرّف على الفيروس الحامل للوباء، وعلى تسلسل كافة مُكوّناته الجينيّة، وتطوير اختبارات موثوقة لرصد المرض. فنحن نعرف، اليوم، ما يجب القيام به لوقف انتشار هذا الوباء. ولربّما نتوصّل إلى لقاح ضدّه في غضون سنة أو سنتين.
إلا أن فيروس كوفيد-19 ليس مجرد أزمة علاج صحي إذ انجرّت عنه أزمة اقتصادية وسياسية هائلة. فأنا لا أخشى الفيروس بقدر ما أخشى الشياطين الساكنة في ذات البشر، شياطين الكراهية والجشع والجهل. فلطالما حمّل النّاس مسؤولية الوباء إلى الأجانب والأقليات، ولم تفكّر المُؤسسات المتعطّشة للرّبح سوى في أرباحها، وإذا ما تمادينا في الاعتقاد في جميع أنواع نظريات المؤامرة، فسيكون من الصّعب الانتصار على هذا الوباء، وسنعيش في عالم تسمّمه الكراهية، والجشع، والجهل. أمّا إذا ما تفاعلنا معه على أساس التضامن والسخاء الدوليّيْن، ووثقنا في العلم بدلاً عن نظريات المؤامرة، فقناعتي بأننا لن نتمكن من التغلب على الأزمة فحسب، وإنما سنخرج منها بأكثر قوّة.
إلى أيّ مدى يمكن أن يتحوّل إجراء المسافة الاجتماعية من إجراء ظرفي إلى قاعدة ثابتة؟ وما تأثير ذلك على المجتمعات؟
ما دامت الأزمة قائمة، لا مفرّ من تطبيق نوع من المسافة الاجتماعية. فالفيروس ينتشر باستغلال غرائزنا البشرية الأكثر نبلا. نحن حيوانات اجتماعية، نحب التّواصل، خاصة في الأوقات الصعبة. فعندما يمرض أفراد من أسرتنا أو من الأصدقاء أو الجيران، نشعر بالتعاطف ونريد مساعدتهم، والفيروس يستعمل ذلك ضدنا. تلك هي الطريقة التي ينتشر بها. لذا، وجب التصرّف بالعقل بدل العاطفة، والحدّ من الاتصال ببعضنا البعض رغم ما ينجرّ عن ذلك من صعوبات. ففي حين أنّ الفيروس عنصر من معلومة جينيّة فاقدة للرّوح، نتمتّع، نحن البشر، بالقدرة على تحليل الوضع بعقلانية ونستطيع تغيير سلوكنا. وأعتقد أنه بعد تجاوز الأزمة، لن نشهد، على المدى الطويل، تأثيرا على غرائزنا البشرية الأساسية إذ سنبقى حيوانات اجتماعية تُحبّذ التّواصل. وسنُواصل مدّ يد المساعدة إلى أهالينا وأصدقائنا.
فلننظر مثلا إلى ما تعرّض له مجتمع المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين إثر وباء الإيدز. كان وباء مروّعًا لهم، وقد تخلت الدولة عنهم في أغلب الأحيان. رغم ذلك لم يؤدّ الوباء إلى تفكك ذلك المجتمع. بل وقع عكس ذلك حيث أنّه، في ذروة الأزمة، أنشأ متطوعون من المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغيّري الهوية الجنسية منظمات عديدة لمساعدة المرضى، ونشر المعلومات الموثوقة، وخوض النضال من أجل الحقوق السياسية. وما إن حلّت التسعينات ووقع تجاوز أسوء سنوات وباء الإيدز، حتى أصبح مجتمع المثليين أقوى بكثير من ذي قبل في العديد من البلدان.
كيف ترون التعاون في مجاليْ العلوم والمعلومات بعد الأزمة؟ فاليونسكو أُنشئِت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتعزيز التعاون العلمي والفكري من خلال الانتقال الحرّ للأفكار. هل من حظوظ، بعد مرور الأزمة، للارتقاء بتعزيز هذا "الانتقال الحر للأفكار" والتعاون بين البلدان؟
إنّ أكبر ميزة لدينا هي القدرة على التعاون على نحو ناجع. فالفيروس في الصين والفيروس في الولايات المتحدة لا يُمكنهما التشاور حول كيفية إصابة البشر. في حين أنّ الصين يمكنها أن تتبادل مع الولايات المتحدة معلومات ثمينة عن فيروس كورونا وكيفية محاربته. كما يمكنها إرسال خبراء ومعدات لمساعدة الولايات المتحدة مباشرة، وهذه الأخيرة يمكنها، بدورها، مساعدة بلدان أخرى. والحال أن الفيروسات لا يمكنها إنجاز عمل من هذا القبيل.
يعتبر تبادل المعلومات من أهم أشكال التعاون، ولعلّه الأهمّ، إذ لا يمكن إنجاز أي شيء بدون معلومات دقيقة. فلا مجال لتطوير أدوية وتلاقيح دون معلومات موثوقة. وحتى الحماية ضد الفيروس عن طريق العزل فإنها تعتمد على المعلومة، إذ كيف السبيل إلى وضع النّاس في الحجر طالما لم نفهم طريقة انتشار العدوى؟
وعلى سبيل المثال، تختلف كيفية التوقّي من الإيدز تماما عن كيفية التوقّي من فيروس كوفيد-19 حيث تتطلّب الحماية من الإيدز استخدام الواقي الذكري أثناء ممارسة الجنس، ولا ضرر في التلاقي وجهًا لوجه مع شخص مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية أو مصافحته أو حتى ضمّه. أما بخصوص فيروس كوفيد-19 فالأمر يختلف تمامًا. فلمعرفة كيفية التوقّي من وباء ما، يحتاج الأمر، أولاً، توفّر معلومات موثوقة حول أسباب الوباء. هل هو فيروس أم بكتيريا؟ هل ينتقل عن طريق الدّم أو عن طريق الجهاز التّنفّسي؟ هل يهدّد أكثر الأطفال أم كبار السنّ؟ هل هناك سلالة واحدة من الفيروس أو عدّة سلالات متحوّلة؟
في السنوات الأخيرة، لم يكتف المسؤولون السياسيون الاستبداديّون والشعبويّون بمنع التبادل الحرّ للمعلومات فحسب، بل بلغ بهم الأمر تقويض ثقة الجمهور في العلم. وعمد بعضهم إلى تقديم أهل العلم في صورة النخبة الشريرة والمعزولة عن الناس، وحثوا أنصارهم على عدم تصديق ما يقوله العلماء عن التغيّر المناخي وحتى عن اللّقاحات. واليوم، يتعيّن على الجميع أن يسلّم بمدى خطورة تلك الرسائل الشعبويّة. ففي فترة الأزمات، نحتاج إلى حرية تنقّل المعلومة، وأن يثق الناس في الخبراء من أهل العلم بدلاً من أن يثقوا في السياسيين الديماغوجيين.
لحسن الحظ، نلاحظ في وضع الطوارئ الحالي أنّ معظم الناس يلجؤون إلى العلم. فالكنيسة الكاثوليكية طلبت من المؤمنين عدم التردّد على الكنائس؛ وإسرائيل أغلقت معابدها؛ وفرضت جمهورية إيران الإسلامية عقوبات على كل من يؤمّ المساجد. كما علّقت المعابد والطوائف بجميع أنواعها الاحتفالات العامة. كل هذا نتيجة ما قام به العلماء من أبحاث وما نشروه من توصيات بإغلاق أماكن العبادة تلك.
أتمنى أن تحفظ ذاكرة الناس أهميّة المعلومات العلمية بعد انتهاء الأزمة. وإذا كنّا نرغب في الاستفادة من معلومات موثوقة في أوقات الأزمات، فعلينا أن نستثمر في هذا المجال في الأوقات العادية. فالمعلومات العلمية لا تسقط من السماء، ولا تنبثق من أذهان العباقرة الفرادى، بل هي رهينة وجود مؤسسات مستقلة مثل الجامعات، والمستشفيات، والصحف. مؤسسات لا تسعى إلى الحصول على الحقيقة فقط، بل هي حرة، أيضًا، في نشر الحقيقة إلى الناس دون خوف من العقاب الذي قد يسلّطه عليها نظام استبدادي. صحيح أنّ إنشاء هذا النوع من المؤسسات يتطلّب سنوات طويلة من العمل، لكن الأمر يستحق ذلك. فالمجتمع الذي يوفّر لمواطنيه ثقافة علمية جيّدة ويكون مدعوما بمؤسسات مستقلة وقوية، يستطيع أن يحارب الوباء بنجاعة أفضل من تلك المتاحة إلى دكتاتورية عنيفة تسعى باستمرار إلى مراقبة شعب جاهل.
فعلى سبيل المثال، كيف نجعل ملايين الناس يغسلون أيديهم بالصابون كل يوم؟ فإمّا أن نركّز عون أمن، أو ربّما كاميرا، في جميع دورات المياه، ونعاقب الأشخاص الذين لا يغسلون أيديهم؛ وإمّا أن نُعلّم التلاميذ في المدرسة ما هو الفيروس وما هي البكتيريا، وأن نشرح كيف يمكن للصابون أن يقتل أو يُبيد هذه المُسبّبات للأمراض ثم نضع ثقتنا في النّاس ليقرّروا بأنفسهم. فما هي الطريقة الأكثر جدوى حسب رأيكِ؟
ما مدى أهميّة التعاون بين الدول لنشر معلومات موثوقة؟
تحتاج الدّول إلى تبادل المعلومات لا فقط حول القضايا الطبيّة البحتة بل حول العديد من المواضيع الأخرى، بدءًا من التأثير الاقتصادي للأزمة على الحالة النفسية للمواطنين. لنفترض أن دولة ما بصدد مناقشة نوعَ سياسةِ الحجر الصحي الواجب اعتمادها، فعليها عدم الاكتفاء بدراسة انتشار المرض بل دراسة تبعات هذا الحجر من حيث تكلفته الاقتصادية وتداعياته النفسية. لقد سبق أن واجهت دول أخرى هذه المعضلة، واختبرت سياسات مختلفة. فعوض الاعتماد على تكهنات مجرّدة وارتكاب نفس الأخطاء السابقة، يمكن لهذه الدولة دراسة النتائج الحقيقية لمختلف السياسات التي انتهجتها كلّ من الصين، وجمهورية كوريا، والسويد، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وتبعا لذلك، اتخاذ قرارات أفضل. ولن يتسنّى ذلك، طبعا، سوى عندما تقدم جميع هذه الدول تقارير نزيهة عن عدد الحالات، والوفيات، وآثار الحجر على اقتصادها وعلى الصحة النفسية لمواطنيها.
لقد أدى ظهور الذكاء الاصطناعي والحاجة إلى حلول تقنية إلى تعاظم الشركات الخاصة. فهل ما زال بالإمكان، في هذا السياق، تصوّر مبادئ أخلاقية عالمية واستعادة التعاون الدولي؟
بقدر ما تتعاظم الشركات الخاصة، تزداد الحاجة الملحّة إلى صياغة مبادئ أخلاقية عالمية واستعادة التعاون الدولي. وقد تنساق بعض الشركات الخاصّة وراء نهم الربح أكثر من بحثها عن التضامن، وقتها يتعين إخضاعها إلى التراتيب بعناية وتنظيمها بأكثر دقة. وحتى المؤسسات التّطوّعية غير الربحيّة فيجب، باعتبارها لا تخضع للمساءلة المباشرة للجمهور، أخذ الاحتياطات اللازمة تجاهها حتى لا تراكم سلطات متزايدة.
والأمر يصحّ على نحو خاصّ بالنسبة للرّصد والمراقبة، إذ نشهد حاليًا ابتكار أنظمة مراقبة جديدة في جميع أنحاء العالم، سواء من قبل الدول أو الشركات. ويمكن للأزمة الحالية أن تُمثّل منعطفا هامّا في تاريخ المراقبة. أولاً، لأنها يمكن أن تُضفي الشرعية على انتشار أدوات المراقبة وتطبيعها، على أوسع نطاق، في الدول التي رفضتها حتى الآن. والسبب الثاني، وهو الأكثر أهمية ويتعلّق بتسجيل انتقال جذري من الترصد "من خارج الجلد" إلى الترصد "تحت الجلد".
ففي السابق، كانت الحكومات والشركات تراقب أساسا حركاتنا في الفضاء الخارجي، مثل المكان الذي نذهب إليه، والأشخاص الذين نلتقيهم. أما اليوم، فقد أصبح الاهتمام أكبر بما يجري داخل أجسامنا من قبيل حالتنا الصحية، ودرجة حرارة أجسامنا، ومستوى ضغط الدّم في شراييننا. فهذا النوع من المعلومات البيومترية يوفّر للحكومات والشركات معلومات عنّا أكثر من أيّ وقت مضى.
لو تفضلتم بذكر بعض المبادئ الأخلاقية التي يمكن على ضوئها تنظيم أنظمة المراقبة؟
إنّ الطريقة المُثلى هي أن يُدار نظام المراقبة من قبل هيئة صحية خاصة وليس من قبل مؤسسة خاصة أو من طرف المصالح الأمنية. والمطلوب من هذه السلطة الصحية أن تركز عملها على الوقاية من الأوبئة دون أن تكون لها غايات أخرى، تجارية أو سياسية. فشخصيا، ينتابني القلق كلّما سمعت بعضهم يقارن أزمة كوفيد-19 بالحرب، ويدعو الأجهزة الأمنية إلى تسلّم المشعل للسيطرة على الوضع. إنها ليست حربا، وإنما أزمة صحية. لا وجود لأعداء من البشر يلزم قتلهم، وإنّما هناك أشخاص يجب العناية بهم. فالصورة السائدة عن الحرب هي صورة الجندي الحامل لبندقيته والمنطلق إلى الأمام. في حين أنّ الصورة التي يجب تكون في أذهاننا، اليوم، هي صورة ممرضة تغيّر الأغطية في المستشفى. لأنّ للجنود طريقة تفكير تختلف تمامًا عن طريقة تفكير الممرّضات. فإذا ما أردنا تكليف شخص معين بمسؤولية ما، فليكن ممرّضة وليس جنديّا.
وعلى السلطة الصحيّة المعنية أن تجمع الحدّ الأدنى من البيانات الضرورية للمهمة الخاصّة بالوقاية من الأوبئة، على ألّا تكشف عنها إلى هيئات حكومية أخرى، خاصة منها الشرطة. كما ينبغي عليها عدم إطلاع شركات خاصة على تلك البيانات. بل يجب التأكّد تماما من عدم استخدام تلك البيانات التي تم جمعها عن الأفراد لإلحاق الضرر أو التلاعب بهم (بما قد يؤدي، مثلا، إلى فقدان عملهم أو عقود تأمينهم).
مقابل هذه القيود المفروضة على تقاسم البيانات، يجب تمكين الأفراد من مراقبة المعلومات الخاصة بهم، وأن تتاح لهم حريّة الاطّلاع على بياناتهم الشخصية والاستفادة منها.
وأخيرًا، ورغم أنه من المرجّح أن تكون أنظمة المراقبة هذه ذات صبغة وطنية، إلا أنه سيكون من الضروري أن تتعاون مختلف السلطات الصحية مع بعضها البعض لتحقيق نجاح حقيقي في الوقاية من الأوبئة. وحيث أن مسبّبات الأمراض لا تحترم الحدود الوطنية، سيكون من الصعب اكتشاف الأوبئة وإيقافها دون جمع البيانات من مختلف البلدان. وسيكون من الأسهل بكثير على هذه السلطات الوطنية أن تتعاون على الصعيد العالمي إذا كانت المراقبة الوطنية قد أُجريت من قبل هيئة صحية مستقلة ليس لديها مصالح سياسية ولا تجارية.
كنتم تحدّثتم عن تدهور سريع، في الآونة الأخيرة، للثقة في النظام الدولي. كيف ترون التغييرات العميقة التي سيشهدها التعاون متعدّد الأطراف في المستقبل؟
لا يمكنني التنبؤ بالمستقبل. فهو رهين خيارات الحاضر. قد تختار الدول طريق التنافس للسيطرة على الموارد الشحيحة وأن تنتهج سياسات أنانية وانعزاليّة، كما بإمكانها أن تختار مساعدة بعضها البعض في كنف التضامن العالمي. هذا الاختيار سيحدّد مسار الأزمة الحالية ومستقبل النّظام الدّولي على مدى السنوات القادمة.
آمل أن تختار البلدان نهج التضامن والتعاون. فلا سبيل إلى وقف هذا الوباء دون تعاون وثيق بين جميع دول العالم. وحتى إذا نجح بلد معيّن في وقف الوباء على أراضيه لفترة من الزّمن فإنّه قد يعود إليها ربما بأكثر خطورة طالما استمر الوباء في الانتشار في مكان آخر. والأدهى من ذلك أن الفيروسات تتحول باستمرار. فإذا ما تحوّل الفيروس في أي مكان من العالم يُمكن أن يصبح أكثر عدوى أو أكثر فتكًا، ويُعرّض البشرية قاطبة إلى الخطر. تبقى الوسيلة الوحيدة لحماية أنفسنا حقًا هي المساعدة على حماية كافة البشر.
وينطبق الشيء نفسه على الأزمة الاقتصادية. فإذا اكتفت كل دولة بالدفاع عن مصالحها الخاصّة، سوف يترتّب عن ذلك مرحلة ركود خطير سيشمل العالم بأسره. إن الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان ستتخطّى المرحلة بطريقة أو بأخرى. لكن البلدان الفقيرة في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، معرضة لخطر الانهيار التام. فالولايات المتحدة باستطاعتها تحمّل تكلفة مخطط قد يبلغ 2000 مليار دولار لإنقاذ اقتصادها، لكن الإكوادور، ونيجيريا، وباكستان، ليس لديها نفس الموارد. نحن بحاجة إلى خطّة إنقاذ اقتصادي عالمية.
للأسف، لم نجد، بعدُ، القيادة العالمية الحازمة التي نحتاج إليها. فالولايات المتحدة، التي تولّت القيادة العالمية خلال وباء الإيبولا سنة 2014، والأزمة المالية لسنة 2008، تخلّت عن هذه المسؤولية. وقد أعلنت إدارة ترامب، بوضوح، أنّها لا تهتمّ سوى بالولايات المتحدة، بل إنها تخلّت عن أقرب حلفائها في أوروبا الغربية. فحتى لو قرّرت الولايات المتحدة الآن وضع بعض الخطط العالمية، فمن الذي سيثق بها، ومن سيعتبرها النموذج الذي يجب اتّباعه؟ هل من أحد يسير وراء قائد شعاره "أنا أولاً"؟
لكن كل أزمة هي أيضا فرصة، لذا نأمل أن يساعد هذا الوباء البشرية على إدراك الخطر الكبير الذي يُمثّله الانقسام العالمي. فإذا ما أدّى هذا الوباء إلى تعزيز التعاون الدولي، فسنسجّل انتصارًا لا فقط ضد فيروس كوفيد-19، وإنما أيضًا ضد كافة الأخطار الأخرى التي تهدّد البشرية، بداية من التغيّر المناخي ووصولا إلى الحرب النووية.
قلتم إنّ الخيارات التي نتخذها الآن سوف تؤثر على مجتمعاتنا، اقتصاديًا، وسياسيًا، وثقافيًا في السنوات القادمة. فما هي هذه الخيارات ومن هو الطّرف الذي ستوكل له مهمّة القيام بها؟
نحن نواجه عديد الخيارات وليس فقط الخيار بين الانعزالية الوطنية والتضامن الدّولي. فالسؤال الآخر الهامّ هو ما إذا كان المواطنون سيدعمون صعود الديكتاتوريات أم أنهم سيظلّون حريصين على مواجهة الأزمة بطريقة ديمقراطية؟ عندما تنفق الحكومات المليارات لمساعدة المؤسّسات التي تمرّ بصعوبات، فهل هي ستساعد على إنقاذ الشركات الكبيرة أم الشركات الصغيرة ذات الصبغة العائليّة؟ وعندما يتحوّل النّاس إلى العمل في البيوت عبر الأنترنات، فهل سيؤدّي ذلك إلى انهيار العمل النقابي أم إلى حماية أفضل لحقوق العمال؟
إنّ جميع هذه الخيارات سياسية بالأساس، وعلينا أن ندرك أن الأزمة الحالية ليست صحيّة فحسب، وإنما هي سياسية أيضًا. كما يجب على وسائل الإعلام والمواطنين ألّا يقتصر اهتمامهم على الوباء فقط. من المهم طبعا متابعة أحدث المعلومات عن المرض نفسه، وعن أعداد المتوفين؟ والمصابين؟ على أنّه يجب إيلاء نفس القدر من الاهتمام بالجانب السياسي والضّغط على السياسيين من أجل اتخاذ القرارات السّليمة. وعلى المواطنين أن يضغطوا على قادتهم لدفعهم إلى العمل على أساس روح التضامن الدولي، وأن يتعاونوا مع دول أخرى عوضا عن اتهامها، وأن يُوزّعوا الأموال بالعدل، وأن يحافظوا على هيئات مراقبة الديمقراطية والحرص على توازناتها، حتّى في حالة الطوارئ.
لقد حان الوقت لنقوم بكلّ هذا الجهد الآن. فالأشخاص الذين سننتخبهم مستقبلا لقيادة الحكومة في السنوات القادمة لن يكونوا قادرين على إلغاء القرارات المتخذة اليوم. إنّ الشخص الذي سيكون رئيسا سنة 2021 هو كَمَنْ وصل إلى حفل بعد نهايته، حيث لم يبق له سوى غسيل الأطباق. فالذي سيصبح رئيسًا سنة 2021 سيكتشف أن الحكومة السابقة قد وزّعت عشرات المليارات من الدولارات، وسيجد أمامه أكداسا من الديون المستحقّة، وأن الحكومة السابقة قد أعادت، بعدُ، هيكلة سوق الشغل ولن يكون ممكنا الانطلاق من الصفر، وأنها أدخلت أنظمة مراقبة جديدة لا يمكن إلغاؤها بين عشية وضحاها. فلا تنتظروا 2021، ومارسوا رقابتكم على تصرفات القادة السياسيين الآن وليس غدا.
الأفكار والآراء المعبّر عنها في هذه المقابلة تلزم الكاتب وحده، ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر اليونسكو ولا تلزم المنظمة.
URL:
https://ar.unesco.org/courier/lrsl-lrqmy/ywfl-nwh-hrry-kl-zm-hy-ydan-frs