أنت هنا

الأخبار

الحج من منظور عالمي

 

يجتمع المسلمون كل عام بعدد يصل 3 ملايين حاج لتأدية مناسك الحج في مكة المكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، ويأتي الحج في شهر ذي الحجة من السنة الهجرية والذي وافق شهر أغسطس 2019. هذا المقال يبين كيف أن الحج هي عبادة تقود للوحدة والسلام وغيرها من أساسيات المواطنة العالمية.

 

حسام شاكر / باحث متخصِّص في الشؤون الأوروبية

إنه موسم عظيم من الاجتماع والانتظام، يمنح الحياةَ عمقاً زاخراً وأفقاً منفتحاً قد لا يتأتّيان لها بدونه. هو موسم يبدأ من أقاصي الأرض مع أفواج الحجيج الذين يتوجّهون زُرافاتٍ ووِحداناً نحو أمّ البدايات، في مسير طويل صوْب أول بيت وضع للنّاس وإن اختزل مسافتَه تحليقٌ بمجنّحات أو إبحار بمراكب أو ترحالٌ على عجلات. والمسير على هذا النحو يحفِّز الوجدان لبلوغ مقصده وملامسة وجهته، إنه موعد مكاني ينعقد في وعي المسلم منذ طفولته مع القِبلة التي تُستقبَل في مواقيت معلومة تُقام فيها الصّلوات، فإليها تهوي الأفئدة طوال العمر تشوّقاً للحظةِ الالتحام بالمركز والطواف به في رحلة الحياة الكبرى؛ امتثالاً لشعائر الله وتعظيماً لبيته المحرّم. في مكة المكرّمة الموعد لتجديد العهد مع النبوّات والرسالات التي ما تعاقبت إلاّ لهداية النّاس وربطهم بالله الواحد الأحد، فيستحضر الحجّ تواصُلَ الرسالات ويجسِّد اشتراكها في جوهر التوحيد المتجرِّد عن زيْغ البشر وأهوائهم وما ينزعون إليه من تحريف للعقائد وتلاعب بالنُّسُك.

  

يتشكّل في موسم الحجّ مشهدٌ عظيم، ينتظم فيه ملايين البشر، يفدون من أرجاء العالم على تباعُد أطرافه ليجتمعوا على صعيد واحد، متجرِّدين من الدنيا وزينتها، يرددون نداءً موحّداً: "لبيك اللهم لبيك". ليس نداء الحج هذا هتافاً من قبيل ما يصوغه الناس بأهوائهم وينحتونه بتحيّزاتهم، بل هو إعلانُ موقفٍ اعتقاديّ يلتزم وُجهة للحياة على بصيرة، وهو صيْحة تحرّر إنسانية كبرى تجري على ألسنة ملايين البشر الذين انعتقوا من أغلال الدنيا وتخلّصوا من الهيمنة الأرضية على هاماتهم وقاماتهم، قاصدين الله الواحد الأحد.

جسِّد الحجّ علاقة مفتوحة بين الأرض والسماء، فلم يجتمع الحجيج بأمر من زعامة بشرية أو قيادة أرضية، أو بتوجيه من كهنوت ديني أو طبقية علمائية، أو خضوعاً لواسطة روحية أو هيْمنة صنمية. ثمّ إنهم يعيشون الحجّ بتجرّد مناسِكِه وبساطتِها واتِّضاحِها بلا حاجة إلى وسيطٍ تأويلي يزعم فكّ الطلاسم أو شرح الأسرار، حُقّ لمناسك الحج أن تصفع وَعيَ الطّغاة والمستبدّين والمستكبرين ومَن استبدّت بهم أوهامُ العظمة والتفرّد؛ إذ لا يرَوْن الجماهير الغفيرة في هذا الموقف العظيم الذي لا نظير له تهتف بأسمائهم أو ترفع صورَهم، فهي تتوجّه بالدعاء إلى من بيَده الأمر كلّه؛ قيوم السماوات والأرض.

   

التماثل والتنوع

لا تلحظ العيون تبايُناتٍ ولا تمايزاتٍ مفتعلة في مشهد الحج، فالإحرام يجرِّد البشر من مقوِّمات التفاوت التي يتّخذونها في المسلك والملبس والهيئة والتعطّر، فيتماثلون في المشهد ويتساوون في آصرة أخوية. هي لوحة إنسانية واقعية لا نظير لها، لا تقوم على الاختصاص الإثني، وتتشكّل على هذا النحو دون أن تمسّ بالتنوّع القائم أساساً بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم الذي هو من آيات الله في خلقه. يُخرِج الحجّ للبشرية، وليس للمسلمين وحدهم، مشهداً يَسُرّ الناظرين، تتواءم فيه قيمة المساواة ووحدة الحال، مع ثراءِ التنوّع الإنساني في أجلى صوره.

ا عجب أن يسأم المتكبرِّون والمتعالون الإحرام – لباس الحج الموحّد في مواصفاته المبسّطة للغاية والتي ينبغي أن تترافق مع الامتناع عن تسريح الشعر ومسّ العطر – فهو يساويهم مع بقيّة النّاس في الموقف الحافل بوفود الأقوام والجماعات البشرية من القارّات والأقاليم جميعاً، ويسلبهم فرص التمايز عن غيرهم أو التعالي عليهم في المسلك أو الملبس أو الهيئة أو حتى التعطّر، فلكلٍّ منها رسائل تبعث بها ممّا اعتاد البشر توظيفه في التفاضل الشكلي فيما بينهم. آلَت صناعةُ العطور في العالم، مثلاً، إلى حلبة كبرى لتضخيم التمايُزات وتعظيم الانطباعات الوهمية في مجتمعات يميل الناس فيها إلى نحت تصوّراتهم المتفرِّدة عن حظوتهم وشخصيّاتهم، عبر استعمال العطر الذي يراد منه أن يشي بمكانة صاحبه المتخيّلة وسمات شخصيّته المُفترضة مع استعماله في "تسويق ذاته" مجتمعياً. يتعطّل مفعول هذه الاستعمالات في الحجّ، فهم يقفون جميعاً على صعيد واحد رغم تفاوتهم في المكانة الاجتماعية والحظوة أو في المستوى العلمي والثقافي، أو في الأملاك والأموال والأرزاق، أو في العادات والتقاليد والأعراف، وعليهم الانضباط في محطّات محدّدة للمناسك لا تبديل لها منذ أن كان الحجّ في الإسلام وكانت المناسك.

 

التحرر من التحيزات الأرضية

لا تنقضي رسائل الحج الظاهرة ودروسه العميقة؛ ومنها أنه ردّ عملي مكثّف على العنصرية السلالية ونزعات التفاخر الذميمة بين البشر؛ فيجتمعون يوم الحج الأكبر في هيئة واحدة على صعيد واحد على تنوّع ألسنتهم واختلاف ألوانهم. وهل يشهد العالم تجربةَ اجتماع متعددة الإثنيات والطبقات كما في موسم الحج الذي يأتيه أقوامٌ لم يجرِّبوا السفر من قبلُ أساساً؛ حتى أنّ بعضهم لم يسبق لهم أن تجاوزوا حدود إقليمهم أو نطاق قبيلتهم؟

إنها ليست رحلة طبقية للمحظيين في مراتب الدنيا كي تبدو مشاهدها خالية من المفاجآت أو مصمّمة حسب معايير السلوك البشري المُنمّط في زمن العولمة، ففيها يتجلّى التنوّع بكل ما فيه، وينخرط في مناسكها منتسبون إلى شرائح وفئات من كبار الأغنياء ومرفّهي الأرض ممّن اعتادوا تناول الطّعام بالشوكة والسكين، وصولاً إلى أعماق بيئات دأبت على تناوله بالأيدي مباشرة. في هذه الشواهد المرئية خبرةٌ للجميع وتربيةٌ لهم وفرص لإدراك الإنسانية من منظور أوسع ولإعادة التفكير بمفاهيم مؤسِّسة لاجتماع البشر وافتراقهم.

يتوافد الحجيج من مجتمعات ترتفع فيها لافتات التفاخر الأجوف بالأنساب والأقوام والألوان والأوطان، وتنشط في بعضها أحزابٌ وقوى وجماعات وشبكات مصالح تعتاش من خطابات الكراهية والتحريض وإثارة الأحقاد والضغائن وتنميط من يتمّ وصمهم وتصنيفهم في خندق "الآخرين"، فتأتي رسالة الحج في هذا المقام لتؤكِّد بالمثال العملي والمشهد المرئي أنّ الناس سواسية، وأنّ مبرِّرات تفاخرهم وَهْمٌ كبير وزيْف مُفتَعل، وأنّ التفاضل الأجدر بينهم لا يكون إلاّ بالعمل الصالح وتقوى الله الذي خلقهم، مع التواضع في السّلوك وابتغاء الدار الآخرة، أو كما أعلن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك في خطبة الوداع يوم عرفة: "أيها النّاس! إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى". ولا ريب أنها رسالة للعالمين جميعاً وليست للمسلمين وحدهم.

إنها رسالة يُدرِك مغزاها مَن أقبلوا على الله تعالى قاصدين أوّل بيت وُضع للناس، متجرِّدين بهذا من شعارات ترتفع في أوطانهم وبرامج تعلو في بيئاتهم. كان من هؤلاء "مالكوم إكس" الذي وقف، خلال رحلة الحج التي قام بها عام 1964، على المعالجة الإسلامية الواقعية لمعضلة التمايُز بين البشر في الألوان بعد أن صعدت في موطنه الأمريكي عنصريةٌ سمراء ردّاً على عنصرية بيضاء. أعادت معايشته الفريدة مناسك الحجّ إنتاج نظرة "الحاج مالك الشباز" للعالم، كما تسمّى "مالكوم" بعدها. وقف القيادي الأمريكي الأسمر مشدوهاً إزاء كل أولئك الحجاج الذين "جاؤوا من شتى أنحاء العالم، ومن كل الألوان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة ذوي البشرة السوداء، لكننا جميعاً كنا نؤدي المناسك ذاتها، بروح من الوحدة والأخوة"، كما كتب في مذكّراته.

 

URL:

https://blogs.aljazeera.net/blogs/2019/8/8/لبيك-اللهم-الحج-من-منظور-عالمي